يتسم مؤتمر حوار الأديان الذى أقيم فى هيئة الأمم يومى 12 و13 نوفمبر الحالى (2008) بأكثر من مغزى : فهو من ناحية يمثل تتويجاً لمساعى البابا بنديكت 16 وإصراره على غرس أرض الحرمين الشريفين بالأناجيل والكنائس وفرض قبول مبدأ الإرتداد عن الإسلام رسمياً ، وذلك ضمن مسيرته الرامية إلى تنصير العالم ؛ ومن ناحية أخرى يمثل عملية تطبيع رخيصة الشكل والثمن مع الكيان الصهيونى المحتل لأرض فلسطين؛ إضافة إلى المعنى المغيّب للدور الذى تقوم به منظمة هئية الأمم فى الموضوعين .. كما ان هذا المؤتمر يضع خادم الحرمين الشريفين علناً فى مأزق الإختيار بين : التمسك بقول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بعدم جواز وجود شرك بالله فى هذه الأرض الطاهرة ، أو ينصاع لمطلب البابا ويبنى كنائس لعقائد تشرك فعلا بالله عز وجل ، و فقا لما ورد بالقرآن الكريم و وفقا لما تتضمنه نصوص الأناجيل!!.
ولو تتبعنا مسيرة المؤسسة الكنسية فى العامين الماضيين فقط ، منذ ان تعمّد بنديكت 16 سب الإسلام والمسلمين فى جامعة راتسبون عام 2006 ، و"أحزنه رد فعل المسلمين" ، فهو لم يعتذر عن ذلك الإستشهاد الكاشف لموقفه الذى تعمده، وإنما أسِفَ لرد فعل المسلمين الذين هبوا دفاعا عن الدين. ونقول تعمّده لسبب بسيط هو: ان الإستشهاد لا يقفذ وحده داخل النص وإنما يختاره الكاتب إما لتأييد رأيه أو لتفنيد ذلك الإستشهاد بالرد عليه. وما فعله بنديكت آنذاك هو مراوغة غير أمينة لا تليق بمن فى مركزه العلمى والدينى، وطلب من الكاردينال جان لوى توران، رئيس لجنة الحوار، محاصرة الموضوع .. وما كان من ذلك الكاردينال إلا اللجوء إلى من يعلم أنه يمكنه الحصول منهم على ما يبتغيه من تنازلات .. وبذلك توّلد الخطاب-الفضيحة الذى تقدم به 138 عالما مسلما ووقعوا عليه ، جهلا أو عن عمد، وصيغت فيه الآيات والأحاديث مبتورة حتى تتمشى مع مطالب الفاتيكان بأننا "نعبد نفس الإله" – ويالها من مغالطة فادحة يقوم بها مسلمون ! إذ كما تقول المؤسسة الفاتيكانية دوما فى تقديم الموضوع : لقد خاف المسلمون من قول البابا وكشفه لحقيقة الإسلام فطلبوا منه ومن كافة الكنائس قائلين "تعالوا إلى كلمة سواء" ..
ومنذ ذلك الخطاب ، شكلا ، تواكب خطان متوازيان فى تلك السلسلة الإجرامية فى حق الدين : خط تطلق عليه المؤسسة الفاتيكانية " الإجماع" ، بناء على خطاب ال 138 الذى سعت فى ان تكون التوقيعات عليه من جميع أنحاء العالم الإسلامى ؛ وخط ثانى تقوده مع خادم الحرمين الشريفين. وفى كلا الإتجاهين لا تكف عن كشف أو تجريح من يرضخون لها - حتى وإن كان بصيغة المدح!. ففى الرابع والعشرين من شهر مارس 2008 ، حينما أعلن خادم الحرمين عن إقامة مؤتمر لحوار الأديان فى مكة المكرمة ، علّق الفاتيكان على ذلك قائلا : " ان جلالة الملك لم يتضامن مع من انتقضوا تنصير مجدى علام (قبلها بيومين) وأعلن عن عمل مؤتمر للحوار" !. وهو ما كان قد تم الإتفاق عليه عند زيارته المؤسفة للفاتيكان ..
وأقول : منذ ذلك الخطاب "شكلا" ، لأن هذه الموجة الحديثة والمستمية لإقتلاع الإسلام قد بدأت منذ عام 2001 ، بأكثر من خط متوازى أيضا. أحدهما كنسى والآخر مع البيت الأبيض، وغيره مع هيئة الأمم ، ورابع مع هيئة اليونسكو.. فحينما فشل الفاتيكان فى تنصير العالم عشية الألف الثالثة ، وفقا لما كان البابا السابق يوحنا بولس الثانى قد أعلنه رسميا عام 1982 فى مدينة شانت يقب باسبانيا ، بناء على قرار مجمع الفاتيكان الثانى (1965) ، قرر الفاتيكان تخصيص العقد الحالى 2001-2010 لما أطلق عليه " عقد إقتلاع العنف " ، الذى هو الإسلام والمسلمين. فقام مجلس الكنائس العالمى فى شهر يناير 2001 بإسناد هذه المهمة للولايات الأمريكية لتتولى الجانب العسكرى فيها، وفى سبتمبر من نفس العام إختلقت السياسة الأمريكية مسرحية 11/9 للتلفع بشرعية دولية لمحاربة "الإرهاب" فيما اطلق عليه جورج بوش "حرب صليبية لإقتلاع محور الشر" الذى هو الإسلام والمسلمين تمشياً مع الخط الكنسى.. و واصلت المؤسسات الكنسية مجامع خاصة بالتبشير والتنصيروأخرى خاصة بتوحيد الكنائس المنشقة لتتكاتف جميعها للتصدى لما يطلقون عليه "المد الإسلامى" !. بينما تتوالى فى نفس الوقت مؤتمرات الحوار مع المسلمين .. أما هيئة الأمم فقد تضامنت بتخصيص نفس ذلك العقد من أجل "الحوار والتفاهم والتعاون بين الأديان والثقافات لخدمة السلام" ، بناء على قرار الجمعية العامة رقم (221/61)، الذى تستكمل معلوماته ما قدمه المدير العام لمنظمة اليونسكو فى تقريره السنوى حول تفعيل "العقد العالمى لثقافة السلام وعدم العنف لصالح أطفال العالم" (راجع 97/62/A). الأمر الذى يكشف كيف تتضافر جهود قوى الشر الحقيقية، فى الغرب المسيحى المتعصب، فى منظومة واحدة تجمع بين المؤسسة الكنسية والسياسة الأمريكية وهيئة الأمم ومنظمة اليونسكو لتعمل كل منها فى مجالها وبإمكانياتها .. وكلها وثائق ومستندات منشورة ، لكننا بكل أسف لا نقرأ ولا نتابع بل نهرّول تلبيةً ونتنازل من أجل فتات زائلة ..
وهنا لا بد من الإشارة إلى زيارة ينديكت 16 للولايات الأمريكية المتحدة (15-21/4/2008) وخطابه يوم 18 فى هيئة الأمم ، حيث أرسى مبدأ التدخل الدولى رسميا وصراحة لحماية حرية المعتقد وحرية العقيدة ، معتبراً "أن ذلك لا يمثل تدخلا فى شؤن الدول" – على حد تعبيره ! لذلك قام بتوجيه مجريات الأحداث لينعقد هذا المؤتمر رسميا فى هيئة الأمم ، وان يكون شكلا بناء على طلب خادم الحرمين الشريفين ، لتبدو التنازلات وكأنها بمطلب من المسلمين وخاصة من قياداتهم الدينية العليا وليست من الاعيب المؤسسة الكنسية وضغوطها !. كما أعلن البابا فى خطابه أمام ممثلو الديانات المختلفة، فى نفس الزيارة، قائلا : " ان المسيحية تقترح يسوع المسيح على الجميع (...) فهو الذى ستقدمه فى ندوة الحوار الخاص بالأديان " .. وكأن البابا والكنيسة لا دخل لهما بذلك ، فالمسيحية وحدها وبمحض إرادتها هى التى "ستقترح" على المسلمين قبول ربنا يسوع المسيح !.. كما تجب الإشارة هنا أيضا إلى ما نشره الفاتيكان فى مواقعه وصحفه على لسان بيير أوبرى وغيره إستكمالا لهذه الجزئية : " أن الإسلام سيفقد وقاحة كبريائه السياسى الدينى بحرب يخسرها ويُفرض عليه التنصير جماعة " .. والفارض هنا بكل تأكيد ستكون الخوزات الزرق مثلما سبق ووقفت لحماية مذبحة القتل العرقى لمسلمى البوسنا والهرسك..
وإذا ما استعرضنا بعضا من الكلمات التى قيلت فى مؤتمر نيو يورك للحوار لأدركنا فداحة الموقف .. وأبدأ بالأحاديث التى حاولت تبرأة السعودية من دعوة شيمون بيريزوالوفد المرافق له، إذ ان ما قاله خادم الحرمين الشريفين من ترحيب "بكل الأصدقاء الذين لبّوا دعوته" التى تحملت المملكة كافة نفقاتها ، وقد قاربت الستمائة مليون دولار، وفقا لما نشرته الصحافة الغربية، تُخرس أى تعليق وتُوقف العبارات فى الحلق ألماً ، حينما نذكر ان ذلك البيريز قد أمر عشية المؤتمر بوقف كل شحنات الوقود للقطاع ومواصلة الحصار القاتل لأكثر من مليون ونصف فلسطينى.. أما إسهابه فى الحديث عن "احترام حقوق الإنسان" ، متناسيا ان لديه أحد عشر الف اسير فلسطينى فى معتقلات حكومته واربعة آلاف شهيد واربعين الف جريح سقطوا باسلحة سفّاحيه منذ إتفاقية أسلو وحدها !! ولا نقول هنا شيئا عن مبادرة السلام العربية التى تقدمت بها المملكة والتى لا تتضمن ذكر لعودة اللاجئين الفلسطينيين وعددهم اكثر من أربعة ملايين نسمة هم جزء من أصحاب الأرض الحقيقيين .. ومن الغريب ان يتحدث بيريز، بعملية إسقاط واضحة ، حينما يقول عن الفلسطينيين، أصحاب الحق، أنهم "يذبحون الناس وكأنهم شياه" ويطالب بالتصدى لهم .. التصدى لأصحاب الأرض ومنعهم من الدفاع عن حقوقهم !..
أما كلمة شيخ الأزهر فهى لا تقل فداحة عما تقدم ، حين يقول متحدثا عن الأديان: "ان أى خلاف بينها إنما هو فى الفروع وليس فى الأركان والأصول" !. فتتساوى بذلك عبادة العجل ، بعبادة ربنا يسوع المسيح ، بعبادة الله الواحد الأحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، تتساوى بالطبع بما أننا جميعا "نعبد نفس الإله" !.. ويا لها من مصيبة لا توصف بأية عبارات ، حتى وإن وُضع الكلام على لسان "عقلاء الأمة" كما قال فى سبعة من الأمثلة التسعة التى ذكرها !..
ومن الكلمات الدالة على الأكاذيب و الخلط فى المفاهيم ، كلمة جورج بوش التى أعرب فيها عن "حمايته للمسلمين فى بلدان مثل كوسوفو والعراق وأفغانستان" ، متناسيا حربه الصليبية التى إقتلعت الألاف بل الملايين من مسلمى هذه البلدان، تارة بقتلهم تحت حماية الخوذات الزرق، وتارة باليورانيوم المخضب واسلحة الدمار الشامل المحرم إستخدامها، بل والتى بحجتها غزى العراق بكل جبروت وهو يعلم يقينا أنها أكاذيب من إختلاق إدارته، وتارة أخرى بمرتزقة "البلاك ووترز" الذين لا زالو يرتعون فى العراق وفى باقى البلدان الإسلامية التى غزاها ودمرها واحتلها بلا أى حق، بما يطلق عليه " حربه الإستباقية" لفرض الديمقراطية التى يتشدق بها، بل ويفرض مواصلة إحتلال تلك البلدان رسميا لسنوات أخرى !! أو تأكيده على " ان الحرية الدينية عنصر محورى فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة وان أفضل سبيل للنهوض بها هو الديمقراطية" !.. ولو أفردنا كتباً لتلك "الديمقراطية" التى يحصد بمقتضاها ملايين المسلمين لما وفيناها حقها من النفاق والأكاذيب !!.
أما كلمة الأمين العام للأمم المتحدة فى تقديم البيان الختامى : "إن التحدى الذى نواجهه الآن هو التحرك فيما بعد الكلمات القوية والإيجابية التى سمعناها خلال اليومين الماضيين، وأنا أتعهد بدعمى الكامل لهذه الجهود، ربما سيأخذ وقتا لنرى النتائج إلا إننى اعتقد ان هذا الإجتماع كان خطوة هامة للأمام" .. أو عبارة أخرى من قبيل : "أن الدول المشتركة فى الإجتماع أكدت رفضها لإستخدام الدين لتبرير قتل الأبرياء أو لإرتكاب الأعمال الإرهابية أو العنف والإكراه" ، فهى كلمة تكشف عما سيتم خاصة أنه ، بعد تأكيد جورج بوش والأمين العام للأمم المتحدة ، سارع مستشارو الرئيس الأمريكى المنتخب باراك أوباما بالإعلان عن أنه سيعمل على تطبيق مبادرة السلام وأنه سيلقى بثقله وراء المبادرة .. والمنشور سابقا كان يشير إلى ان أوباما كان قد أعلن قبل فوزه "أن أمن إسرائيل مقدس وأن القدس عاصمة لإسرائيل وبلا أى تقسيم" .. كما وعد "بالحفاظ على السيادة العسكرية الإسرائيلية لتتصدى لأى تهديد من غزة أو من طهران" ، و وعد إسرائيل بمنحها ثلاثين مليار دولار مساعدات إضافية.. وهو ما سوف يطوى آخر صفحة من صفحات الحزن الأسود على القضية الفلسطينية لتتحول فلسطين الى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كما أعلنها الصهاينة منذ البداية ونجحوا فى تنفيذها بفضل تفريط المسلمين فى قضاياهم وفى دينهم ، فالأحداث التاريخية ما زالت عالقة بالأذهان ..
أما الجانب الدينى فى هذه السلسلة من مؤتمرات حوار الأديان الرامية إلى إقتلاع الإسلام ، فقد حصلت المؤسسة الفاتيكانية بتحايلاتها الملتوية وبتنازلاتنا ، على أننا نعبد نفس الإله بإجماع المسلمين، وأن الإرهاب والعنف متأصل فى الإسلام ، لذلك يتعين حذف تلك الآيات من القرآن بإجماع المسلمين أيضا، وأن حرية العقيدة تحتم بناء كنائس فى أرض الحرمين الشريفين – علما بأن كافة مواطنى هذه الأرض مسلمون ، ومَن بها من مسيحيين فجميعهم من العمالة المؤقتة ، والعمالة المؤقتة لا تسرى عليها حقوق المواطنين، إضافة إلى أنه لا يوجد أى نص دينى يفرض على المسيحيين الصلاة فى كنيسة .. كما حصلت على فرض حرية الإرتداد عن الإسلام وخاصة على حرية التبشير والتنصير فى البلدان الإسلامية دون أن يتعرض لها أى إنسان ، إذ أنها سوف تحمى ذلك بتدخل الدول الكبرى الغربية رسميا بحروبها الكاسحة وبخوزاتها الزرقاء ، فما نعيشه من واقع مرير ليس بحاجة إلى الأدلة والبراهين ..
وبعد كل ما تقدم ، وهو جد قليل من غثاء كثير ، هل سيواصل مسؤلونا بكل مستوياتهم ومختلف مجالاتهم ، إسهاماتهم المؤدية إلى إقتلاع الإسلام بأيدى المسلمين ، أم سيخشون الله عز وجل وتصحوا ضمائرهم لتعديل المصار ، قبل أن يصل بنا المطاف إلى مرحلة التحرك "فيما بعد الكلمات" ؟ .. فعلى حد قول بان كى مون ، أمين عام هيئة الأمم ، إنها ليست ببعيدة ، بناءً على وعده وتصريحاته أمام الجميع : بتقديم دعمه الكامل لتنفيذ هذه المطالب التدميرية ، خاصة وأن هذا التخلص يجب أن يفرغوا منه فى هذا العقد ، المنتهى سنة 2010 ، وفقا لما حددته هذه الجهات الرسمية العالمية الأربعة فى برامجها ، بكل ما تحمله من مؤسسات تنفيذية عاتية !!..