السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
غض البصر وفوائده
لغض البصر فوائد عظيمة، ومنافع جمّة، وثمرات يانعة، يقطفها المرء في الدنيا والآخرة، من ذلك:
1- تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته؛ فأضرُّ شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه، قال الأصمعي: رأيت جارية كأنها مهاةٌ، فجعلت أنظر إليها، وأملأ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا ما شأنُك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وكنت متى أرسلت طرْفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه، كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر ومُعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بال قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلّبُها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يَسُرّ مقتله ما ضرّ مهجته لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر والناظر يرمي من نظره بسهام تُصوَّب إلى قلبه وهو لا يشعر، فهو إنما يرمي قلبه، ويطعن فؤاده، ويمزق أحشاءه.
متيم يرعى نجوم الدجى يبكي عليه رحمةً عاذلُهْ
عيني أشاطت بدمي في الهوى فابكوا قتيلا بعضه قاتله
ويقول آخر:
وأنا الذي اجتلبت المنية طرفُه فمن المُطالب والقتيل القاتلُ؟
وقال آخر:
يا من يرى سُقمي يزي د وعلَّتي أعيت طبيبي
لا تعجبن فهكذا تجني العيون على القلوب
2- إن غضّ البصر يورث نورًا للقلب، وانشراحًا للصدر، وجلاءً للبصيرة ووضوحًا في الرؤية، ويجعل الإنسان أكثر إيمانًا وأكثر يقينًا وأكثر استمتاعًا بالنظر الأجمل، والنور الأكمل؛ نور الله جل وعلا. ولحكمة معينة جاء بهد هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ ... [النور: 35 ]، فالله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنسه، فلما منع العبد نور بصره أن ينفُذ إلى ما لا يحل له، أطلق الله نور بصيرته، وفتح عليه باب العلم والمعرفة.
3- إن العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته، إن النظرات كلما تواصلت وكثرت كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال تنمو حتى يفسد القلب ويُعرض عن الفكر فيما أمر به ربه، ويخرج بصاحبه إلى المحن، ويوقعه في الفتن. يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: “ كم نظرة قد ألقت صاحبها في البلابل “.
4- أنه يورث صِحّة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلبُ صحّت الفراسةُ.
5- أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهّل عليه أسبابه، ولك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض. ومن أرسل بصره تكدّر عليه لُبه وأظلم، وانسدّ عليه باب العلم وطُرُقه.
6- أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.
7- أنه يورث سرورًا وفرحًا، وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظرة، وذلك لقهره عدوّه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه، وأيضًا فإنه لما كفّ لذته وحبس شهوته لله، وفيها مسرّةُ نفسه الأمّارة بالسوء، أعاضه الله سبحانه مسرّةً ولذة أكمل منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب، ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحًا وسرورًا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى.
8- أنه يسدّ عنه بابًا من أبواب جهنم، فإن النظر بابُ الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل.
9- أنه يقوّي عقله ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خِفّة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب.
وأعقل الناس من لم يرتكب سببًا حتى يُفكّر ما تجني عواقبه
10- أنه يُخلّص القلب من سُكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يُوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق، كما قال الله تعالى: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ... [الحجر: 72 ].
11- أنه سبب لمرضاة الله تعالى ونيل كرامته، والفوز بجنته، والتلذذ برؤية أكمل مطلوب، وأجمل محبوب، وهو وجهه الكريم جل وعلا. يقول – صلى الله عليه وآله وسلم –: ( اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدَّوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفوا أيديكم ). وقد وردت عدّة أحاديث في الأمر بغض البصر وبيان خطورته. ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه –: “ حفظ البصر أشد من حفظ اللسان “. ويقول أحد العلماء: “ لا تتبع بصرك حُسن ردف المرأة، فإن النظر يجعل الشهوة في القلوب “. ويقول العقلاء: “ من سرّح ناظره خاطره، ومن كثرت لحظاته دامت حسراته، وضاعت عليه أوقاته، وفاضت عبراته “. إن غض البصر شيمة العقلاء، وديدن الشرفاء، ولذلك يقول عنترة وهو رجل جاهلي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
فأين كثير من المسلمين عن هذا الخلق الرفيع، والأدب الجميل:
يا وجه عنترة العبسي معذرة إني أراك كسيف البال مكتئبا
أراك تنكر قومًا كنت تعرفهم وتنكر الوجه والأخلاق والنسبا
كأنما لم تجد ما كنت تعهده من غيرةٍ وحياءٍ يبلغ السحبا
ذاك امرؤ جاهليٌّ ما رأى خلقًا من النبي ولم يستنطق الكتبا
لكنه العربي الشهم يمنعه حياؤه من صفات تحرق الأدبا
يقول بعض السلف: “ من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته “..“. لا تعجب إذًا إن لم تجد للطاعة حلاوة، وللعبادة لذة، وللذكر نشوة، وللقلب بصيرة، وللنفس فرقانًا، فإن من أهم أسباب منع الأنس بذلك هو إطلاق البصر فيما يصرف عن الحبيب القريب، والسميع المجيب. فالنظرة الغاشمة سهم من سهام إبليس، والعين تزني وزناها النظر، ومتى أطلق البصر فقد حصل الخطر.
كم من إنسان تبدد قلبه، واحترق فؤاده، وتمزقت كبده، بسبب عينيه.
وهذه أبيات رائعة لأحد قتلى النظر، وضحايا البصر، يقول:
يقول طرفي لقلبي هِجْتَ لي سقمًا وعين تزعمُ أن القلب أذكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبةٌ وهي التي هيّجت للقلب بلواها
لولا العيونُ وما يجنين من سقم ما كنت مُطّرحًا من بعض قتلاها
فقالت الكبدُ المظلومة اتّئدا قطّعْتُماني ما راقبْتُما الله ما ظنك بمن ضجّ سمعُه، وكلّ بصره وهو ينظر إلى الحرام، ويتابع سيئ الأفلام، ويطلق العنان لسمعه وبصره في الآثام، هل راقب الخالق، أو شكر المنعم أو استحيى من ملك الملوك؟ يسمع الفاتنات، ويدقق النظر في الغانيات، ويتأمل مفاتن السافرات: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿20﴾ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ... [فصلت:20،21]، ﴿ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴿22﴾ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 22،23 ].
ولخطر اللسان بيَّن تعالى أن المرء محاسب على كل ما يقول: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ... [ق: 18 ]، ويقول - صلى الله عليه وآله وسلم – لمعاذ بن جبل: ( كف عليك هذا ) وأشار إلى لسانه، فقال: يا نبي الله، وإن لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ( ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلى حصائد ألسنتهم ). بل إن كلمة واحدة قد يقولها المرء لا يلقي بها بالا تهوي به في جهنم سبعين خريفًا. ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴿8﴾ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ﴾ ... [البلد: 8، 9 ].. اللسان مزود بسبع عشرة عضلة تسمح له بحركة كبيرة، ونسيج الشفتين نسيج خاص يتشكل حسب الحاجة، وهذه المرونة التي يتمتع بها نسيج الشفتين هي التي أتاحت له القيام بوظيفتين مختلفتين “الأكل والكلام”. إن القلب ملك الجوارح واللسان ترجمانها قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: ( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ). باللسان يُسَبَّح الواحد الأحد، ويُذْكَر الفرد الصمد، ويُدعى إلى الإيمان، ويُحث على الفضيلة ويُحذر من الرذيلة وتقام الحجة على المُعْرِض ويُبين الهدى، ويُردّ عن الردى، قال – صلى الله عليه وآله وسلم -:
من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان يقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: إن أكثر خطايا بني آدم في لسانه
ويقول إبراهيم التيمي - رحمه الله -: " المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان كلامه له تكلم، وإن كان عليه أمسك عنه، والفاجر إنما لسانُه رسْلا رَسْلا
تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حيّ والسكوت جماد فإن لم تجد قولا سديدًا تقوله فصمتك عن غير السداد سداد ".
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.
كأن رقيبًا منك يرعى جوانحي وآخر يرعى مسمعي وجناحي
ولم أطلق العينين فيما نهيتني ولم يرتضي سوءَ الكلام لساني