amood فيتاوي نشيط
عدد الرسائل : 139 العمر : 33 نقاط : 0 تاريخ التسجيل : 10/07/2008
| موضوع: حنيف من جلاسكو الأحد يوليو 20, 2008 5:30 pm | |
| [size=25]كنتُ أعبر جسر الخليج عندما جاءني صوته عبر الهاتف. ظلت عيناي تدمعان قليلاً، وزوجتي صامتة. قال لي: مبروك. وفي صوته رائحة الصوف التي تليق بالرجل الذي جُدِلت حنجرته في كشمير، وما زلتُ ألمسُ في قلبه نفس خطوط الوفاء المعتادة التي رتب بها علاقته معنا طيلة عشرين سنة، وأوحت إليه اليوم أن يبعث بركته البعيدة، عبر مكالمة هاتفية لا بد أنها تكلفه كثيراً في جلاسكو.
فاجأني في منتصف الجسر تماماً، ولهذا بدا الحوار معلقاً، مرتبكاً، ومعرضاً في أي لحظة أن يسقط من حافته، وفي لجة البرود والرسمية التي لا أشعر أنها لائقة. ولهذا خففت سرعتي قليلاً، وحاولت أن أكون بمستوى كرامته حتى لا تتضاعف ذنوبي. كانت حالة غريبة، كما ظلّت غريبة دائماً، أن تكون حميماً لصديق لم تزل عربيته مكسرة جداً، وإنجليزيته في عثارها الأول، والتأرجح بين اللغتين آخر شيء ينقص عاطفتي المتحفظة أصلاً، وغير المعتادة على التعبير عن خالجٍ مفاجئ كهذا. عانقته آخر مرة قبل سنتين. أخبرني أن تأشيرة هجرته إلى بريطانيا صدرت أخيراً، متأخرة عشر سنوات عن مواقيت أحلامه، وأخبرتني حقيبته المتأهبة جداً للشمال أننا لم نكن أطيب معه من تلك البلاد الموعودة. عشرون سنة وهو يذرع شوارع الرياض حتى استوت عنده هي وجبال كشمير، فلم يعد لأي منهما سطوة أعلى في ذاكرته. اقتسمت المدينتان حياته تماماً حتى أصبح التحيز إلى إحداهما في هذا المنعطف الأربعيني من العمر يهدده بكساح في الذاكرة لا أعتقد أنه يحتاجه الآن أبداً، لاسيما وهو متجه إلى مدينة ثالثة جديدة، لا يعرف نواياها تجاهه. ترك الرياض للمرة الأخيرة وفي جوازه تأشيرة تشبه تلك التي دخل بها قبل عشرين سنة. لم نكتب شيئاً مختلفاً في جوازه مقابل الكثير الذي كتبناه على أيامه هنا. تذكرت وأنا في الخامسة سعادة الاحتفال بسائق جديد للعائلة، طويلٍ جداً، أسود الشعر، غليظ الشفتين، ونحيل. ولم يلبث طهو أمي أن غيّر من صفته الأخيرة تلك، وأحدث في بدنه استدارة بطنية متنافرة مع طوله الفارع. الآن، أتذكر وداعنا قبل سنتين، ما زال طويلاً ولكن شعره اشتعل تدريجياً ببياض مدروس، موقّع بالتعب الذي داهمه فجأة، وصارت قدرته على المزاح أقل، وغابت ضحكاته اللامبالية تماماً، حتى إني لا أتذكر أني سمعته يضحك منذ سنوات! ظلّ واقفاً في منتصف المسافة بين عائلتنا وخدمتنا لوقت طويل، لا يستطيع تجاوز أحدها إلى الآخر. سافر وعاد، وسافر وعاد، عشرات المرات، وفي كل مرة تنوء حقيبته البسيطة بالهدايا القماشية الصغيرة، وتحف المرمر، وفواكه السند، وأشرطة الفيديو التي صورها في قريته. عندها كنا نتحلق جميعاً في صالة المنزل، تلتحف أمي بخمارها وتجلس في الخلف، ونضطجع أنا وإخوتي حول التلفاز، بينما يجلس هو بتواضع قريباً من جهاز الفيديو، ويمد ذراعه الطويلة بين فينة وأخرى ليشير إلى زقاق يظهر في التلفاز، أو دكان، أو منعطف ((يمشي قدام شوي في بيت اخت أمي أنا.. بعدين اثنين شارع يسار في بيت اخوي كبير...))، وكثيراً ما قاطعته أنماط مختلفة من الأسئلة حسب أعمار السائلين. وعني أنا، فقد تجاهلتُ كل تاريخه العائلي الذي يحاول أن يوضحه لنا، وسألته ((ما فيه اسفلت؟))، وضحك حنيف، وأمي، وأخي الأكبر، وظلت أختي الصغرى تنتظر الإجابة، مثلي. تأجّلت طفولته طويلاً. عندما ولد في كشمير، كان أبوه قد صار عمدة القرية منذ سنتين تقريباً. اجتمعت لديه وظيفة الحكومة، ووجاهة المنصب. فتزوج امرأة ثانية، ليكمل بها زينته. ووُلد حنيف وأخوه الأصغر من هذه الزوجة الثانية، وكل المؤشرات كانت توحي أنه وأخاه سيقطفان حتماً ثمرات كثيرة من كونهما ابنين لشيخ كبير، وزوجة صغيرة أثيرة، ومنصب جديد. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن أباه مات كما يموت الشيوخ، بينما كان أغلب إخوته الكبار من الزوجة الأولى، كباراً بما يكفي ليتركوا القرية إلى أصقاع الأرض للعمل. ولهذا تأجلت طفولته ككل الأيتام. ترك المدرسة صغيراً، وصار يبيع القفازات الصوفية التي تغزلها أمه للجنود المرابطين على الحدود. والطريق ما بين القرية إلى ثكناتهم كان مسكوناً بأصوات القنابل البعيدة، وأناشيد الأطفال التي تسخر من الهنود، وتخترع حكايات صورية عن جبنهم وضعفهم. وعندما بلغ العشرين، انتقاه أحد مكاتب الاستقدام وجاء به إلى السعودية وهو يشعر أن حياته لتوها تبدأ، مثلما يشعر الآن بنفس البداية، وهو في جلاسكو، أباً لثلاث بنات، وفي الأربعين، ويصنع همبورغراً إسلامياً لطلاب الجامعة، وينتظر أن تنتهي إجراءات جنسيته البريطانية في أسرع وقت. كانت السعودية عندما قدم إليها حنيف لأول مرة تشبه واحة طيبة في منتصف الصحراء. غريبة، ولكنها مريحة. أصوات الأذان تخرج من عشرات المآذن، عبر مكبرات الصوت التي تبعث في روحه المهابة، وتطمئنه إلى أن القوم مسلمون، يحبون الله والأذان، وسيعتنون به جيداً. كان يتقاضى راتباً لم يره جيبه، ويتناول ثلاث وجبات كاملة في اليوم، مقابل أن يقود سيارة حديثة في مدينة عصرية، ويروي أشجار الحديقة القليلة. إنها غربةٌ بلا أنياب، والخير مبعثرٌ في الطرقات، والناس لا يقلقون من شيء ولا ينتظرون شيئاً. ولهذا اطمأن قلبه، وتذكر أنه لم يعش طفولته بعد، فقرر أن يجترّها من ماضيه، ويمضغها بيننا على مهل. هاجمته أزمة منتصف العمر، وهو ما يزال ذارعاً وجه الرياض الذي لم يتغير كثيراً هو الآخر. الأربعون تدقُّه مثل وتد لا يريد أن ينزل أكثر في هذه الصحراء فيضيع فيها إلى الأبد، والبنيّات الصغيرات اللواتي سمّاهنّ بأسماء عربية ما زلن بعيدات عن ذراعيه، في كشمير، يربين الطواويس، ويغزلن الصوف، وينتظرن الأب البطل، ويكبرن بسرعة لا يتحملها قلبه البعيد. أكبر، صديقه الباكستاني الذي كان يعمل سائقاً أيضاً في الرياض منذ ثلاثين سنة، مات في نوبة سكَّري قريباً من بيت مخدوميه في حي الورود. سقط في منتصف الشارع، وسقط معه بيضٌ، وجريدة، وعلبة زيت. كان عند حنيف صورة أخرى للموت، لا تشبه هذه أبداً.ظلّ المقود اللعين يصلب كتفيه، ويقودنا بالسيارة إلى كل الاتجاهات التي نريد، ما عدا اتجاهاته التي يريدها هو. في الوقت الذي أصبح فيه أطفال العائلة التي يعمل لديها مختلفين تماماً. كبروا، وصاروا يتكلمون لغةً صعبة على قاموسه الإنساني المكون من عشرين سنة من العِشرة، والعمل المخلص. بدا واضحاً لعيني أمي الرحيمتين أن القوي الأمين الذي استأجرته لخدمتها وأطفالها منذ أن ترملت لم يعد قوياً، وإن ما زال أميناً. سمعته مرة يتحدث إلى خادمتنا المغربية بشجن هائل. عيناه دامعتان مثل الزيتون الأخضر المبتل. كان يتناول كوب الشاي الذي اعتادت أن تناوله إياه الخادمة بعد المغرب. جلس هذه المرة عند عتبة باب المطبخ، وجلست هي. حدثها عن بناته اللواتي يكاد يشم رائحة الطين في أقدامهن من آلاف الأميال، وحدثته هي عن أمها المريضة، وابنتها التي أخذها طليقها معه إلى إيطاليا، ولم تسمع عنها منذ سنوات. تحولت عتبة المطبخ البسيطة تلك إلى قطع غير منتظمة من حزن طارئ، متغضن مثل قوالب الجبن المكعبة، له رائحةٌ نافذة، وعمر قصير. عاد إلى غرفته، والخادمة إلى المنزل، وبقيت أوجاعهما المتشابهة مبعثرة عند عتبة المطبخ، تمضغها القطط التي تحوم حولها طيلة الليل. زادت أمي راتبه بضع مئات بعد أن أمرته أن يقطع أمامها وعداً باتخاذ تدابير أكثر محافظة فيما يتعلق بتوفير المال، وأن يمتنع عن شراء الأجهزة الالكترونية الحديثة التي يغرم بها. كانت تؤنبه مثل طفل، وهو يهزّ رأسه بخجل، ولا يتكلم. ومنحته حرية أن يعمل في الإجازات الأسبوعية في نقل الخضار والفاكهة مع بعض بني جلدته لعله يجني لنفسه بضع مئات أخرى. أخبرني أنه يتمنى لو ينتقل بأسرته إلى مكان آخر، بعيداً عن قريته الكشميرية التي لا يأمن عليهم فيها من هجمات الهنود، ورصاصهم الطائش، في تلك المنطقة الحدودية المتنازعة بين البلدين. وأخبرني أنه يتمنى لو اشترى سيارة نقل صغيرة لينقل المسافرين بين بيوتهم الجبلية ومحطة القطار، وفي ذلك رزق كاف. وأخبرني أيضاً، في وقت لاحق، أن كل ما جناه في السعودية أنفقه في حفل زواجه المكلف، ثم في حوالات سخية لزوجته التي خلفها وراءه هناك، وراح يزورها كل سنة، زارعاً في بطنها طفلةً حنطية. اختلف حنيف الأعزب، في سنواته الخمس عشرة الأولى معنا كسائق، عن ذلك المهموم شارد الذهن الذي صار يشاركنا البيت، دون أن يلفت الانتباه. كانت ابتسامته قبل ذلك أكثر اتساعاً واستغراقه في الحياة أعمق، وكأننا لسنا إلا أسرته التي لن يفارقها يوماً بتأشيرة خروج نهائي. وفي السنوات الخمس الأخيرة، صار حنيف الأب، مقطباً أكثر الوقت، بعد أن أحدث لنفسه عائلة صغيرة في كشمير يقلق عليها. اختفت ملامحه الضاحكة، واستبدلها بوجه متوتر وجبين متعرق. وتغيرت عاداته المتأنقة في اللباس، وصار يبدو في ملابسه الباكستانية المعتادة مثل أي باكستاني كادح في هذه المدينة.الآن، وصوته معلقٌ معي على الهاتف، كان أوسع ما يمكنني أن أمنحه إياه من الوفاء، أن أطيل في سلامي عليه، وسؤاله عن أطفاله. ولأن كل هذا لا يحتمل إلا سؤالين على الأكثر، كان من الضروري أن أكررهما أكثر من مرة. ثم أهرب من نفاد الأسئلة إلى جلاسكو، وأساله عنها وأهلها، فيضحك ((كثير سعودي هنا يا محمد، يدرس جامعة، يجي مطعم عشان لحم حلال، أنا كلام أنا في عشرين سنة في سعودية، هو ما صدق!))، ولا أدري إذا كانت رؤية السعوديين الذين صاروا زبائنه المفضلين في جلاسكو تبهجه أو تزعجه، بعدما قضى في بلدهم نصف عمره تماماً. بالتأكيد لم يكونوا جميعاً لطيفين معه، ولم يكن حنيف يتوقع منهم لطفاً يشبه هذا الذي يراه منهم الآن في جلاسكو. تذكرت ذات يوم عندما اتصل بنا في الرياض من قسم الشرطة، وحضرنا لاستلامه وهو ملطخ بالدماء، بعد أن تعارك مع خمسة شباب سعوديين دفعة واحدة، حاولوا التحذلق عليه أثناء القيادة. كان وجهه يبدو مثل كرة مثقوبة، رغم ابتسامته اللامبالية، وتلك الدماء المتجمدة على جبينه، وشاربه، والتي تنبيء أن العراك استمر دقائق طويلة قبل أن يفضه المارة. ولكن الخمسة الآخرين لم يكونوا أحسن حالاً منه، بعد أن فهموا جيداً أن الحياة في كشمير، في منطقة حدودية متنازع عليها منذ عقود، تصنع قلوباً أبية، وقبضات قوية! يؤلمني أن أجد صعوبة في تسيير الحوار مع الرجل الذي اقتسمت معه ذاكرة طفولتي كاملة. تلك المنصفة منها على الأقل. ولازلت أتذكرها بكل وضوح، وبالألوان الطبيعية، في الوقت الذي لا أستطيع فيه الآن أن أبتكر كلاماً تلقائياً ينقله الأثير الهاتفي! كل الذكريات حاضرة في ذاكرتي، ولكنها بكماء. لعب الكرة في الصيف الثقيل، سقيا الحديقة في العصر الدامع، حلقة المصارعة التلفزيونية ليلة الثلاثاء، مباريات المنتخب في كأس آسيا 88، عمرات رمضان المزدحمة، السباحة في شاطئ نصف القمر، إصلاح اللمبات المحترقة، الشواء في الشتاءات المملة، صلاة العيد ذات التكبيرات، الغناء في مطاعم الوجبات السريعة، التهكم على بدانة الخادمة المغربية، والكثير من الذكريات المفترضة لطفل تحرك بسرعة من الخامسة، إلى الخامسة والعشرين، كان حنيف حاضراً فيها جميعاً، في منتصفها تماماً، إذ لا تكاد تكون ممكنة لو لم يكن موجوداً. هو الذي علمني كيف أنظف رأس الفيديو القديم بقطرات البنزين، وكيف أفرق بين اللغة الهندية والأردية، وكيف يمكنني أن أنفخ الكرة باستخدام مبيد الحشرات، وكيف أوقف أزيز لمبات النيون البيضاء دون أن أضطر إلى تغييرها. ذلك عندما كان تعلم هذه الأشياء البسيطة ممتعاً، قبل أن أكبر، وتتناقص متع الحياة تدريجياً. * * * * * ودعني حنيف بالكلمات التي يسمح بها قاموسه العربي المحدود، وودعته وأنا أعبر الأمتار المتبقية من الجسر، وبقيتُ قابضاً على هاتفي الجوال بحنق قصير، وكأني أحاول حبس شيء من صوت حنيف فيه، أستطيع أن أصنع منه حواراً أكثر نبلاً فيما بعد، كما يستحق هو إنسانية مشذبة وليست تلك التي تزداد شعثاً كلما كبرت. فتحتُ النافذة، لعل الهواء المندفع يبرر إدماعي، وانتظرتُ أسئلة زوجتي التي تتربص بي من أول المكالمة. - مين؟- حنيف، سواقنا القديم. - وليه الدموع؟- لأني اشتقت له..- للسواق؟!!!!!محمد حسن علوان 18[/size] | |
|
الاسد فيتاوي جديد
عدد الرسائل : 24 العمر : 38 نقاط : 22 تاريخ التسجيل : 15/07/2008
| موضوع: رد: حنيف من جلاسكو الأحد يوليو 20, 2008 5:49 pm | |
| جميلة جدا القصة ياابو العمدة الف شكر | |
|