كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما اشتد المرض عليه، وشعر بدنوِّ أجله رأى أن يحسم أمر اختيار خلفٍ له خشية انقسام المسلمين بعده، فاختار عمر بن الخطاب خليفة له بعد أن استشار كبار الصحابة، فبايعه عامَّة المسلمين بعد ذلك.
فأعاد تنظيم الجيوش، ووُلِّيَ أبو عبيدة بن الجراح القيادة العامَّة لجيوش الشام بدلاً من خالد بن الوليد، فقادا الاثنين معًا معركة اليرموك التي انتهت بانتصار المسلمين.
وواصل عمر استكمال الفتوح الإسلاميَّة التي بدأت في عهد الصِّدِّيق فقرَّر توجيه الإمدادات إلى العراق بعدما ضعفت هذه الجبهة برحيل خالد بن الوليد إذ لم يتمكَّن المثنَّى بن حارثة من الاحتفاظ بما حقَّقه المسلمون من انتصارات، فارتدَّ إلى الحيرة وتحصَّن بها، وكتب بذلك إلى الخليفة، فأرسل عمر أبا عبيد بن مسعود الثقفي في خمسة آلاف مقاتل، وأمره بالسير إلى العراق لقتال الفرس، وكتب في الوقت نفسه إلى المثنى يأمره بالانضمام إليه بمن معه من العَسْكَر.
وبعد عدَّة اصطدامات جانبيَّة مع الفرس في أماكن متفرِّقة، وصل أبو عبيدة إلى قُسِّ النَّاطف وهو موضع قريب من الحِيرَة على الضِّفَّة الشرقيَّة لنهر الفرات حيث انضمَّ إليه المثنَّى مع قوَّاته، ودفع الفرس بجيش من أربعة آلاف مقاتل بقيادة جاذويه، وعسكر على الجانب الآخر من النهر.
عبر أبو عبيدة واصطدم بالجيش الفارسي في رَحَى معركة عنيفة قُتل خلالها أبو عبيدة، وتراجع المسلمون عَبْر الجسر تحت ضغط المعركة، لكنَّ أحد المسلمين هدم الجسر؛ ليَحُولَ دون انسحابهم، مما أضعف رُوح المسلمين المعنويَّة، وجعلهم عُرضة للقتل بعدما اختلَّ نظام صفِّهم، في هذه الأثناء نفَّذ المثنى خُطَّة تراجع منظَّمة عَبَر النهر، وانحدر مسرعًا إلى الحيرة، ومنها إلى أُلَيْس إحدى قرى الأنبار.
أضاعت معركة الجسر مكاسب المسلمين السابقة، وجعلت الحرب سجالاً، وأضحى موقف المثنَّى دقيقًا، واستمرار الفتح مستحيلاً، من دون دخول إمدادات جديدة إلى ميدان المعركة، فكتب إلى عمر بن الخطاب يطلب منه أن يمدَّه بالمسلمين، تحرَّك الخليفة على وجه السرعة وجهَّز جيشًا بقيادة جرير بن عبد الملك الْبَجَلِي، وأمره بالتوجُّه إلى العراق، حيث انضمَّ إليه المثنى، وقذف الفرس في هذه الأثناء بجيش تعداده اثني عشر ألف مقاتل بقيادة مهران بن باذان الهمذاني للتصدِّي للمسلمين، واشتبك الجيشان في رحى معركة قاسية في البويب في شهر رمضان، أسفرت عن انتصار واضح للمسلمين.
تأثَّر الفرس بما حلَّ بهم من هزائم متكرِّرة أمام المسلمين، فثاروا على ملكتهم بوران بنت كسرى أبرويز، ونصَّبوا عليهم يزدجرد بن شهريار بن كسرى، فعمل على توحيد الجبهة الفارسيَّة، وولَّى على قيادة جيوشه رستم بن هرمز.
ولما بلغت عمر هذه الأنباء جهَّز جيشًا جديدًا بلغ تعداده نحو عشرين ألف مقاتل، أمَّر عليه سعد بن أبي وقاص، وأرسله إلى العراق لمواجهة الموقف المتجدِّد، فالتحم الجيشان في رحى معركة (القادسية) في (شهر شعبان 15هـ)، استمرَّت عدَّة أيام، وانتهت بانتصار المسلمين ومقتل رستم.
وتُعَدُّ معركة القادسيَّة نصرًا حاسمًا للمسلمين في صراعهم مع الفرس، وضربة مميتة للحكم الفارسي في العراق، وتَمَكَّن المسلمون من تحطيم القوَّة الميدانيَّة للجيش الفارسي بشكل لن تقوم له قائمة بعدها، وأدَّى مقتل رستم إلى زيادة اليأس والاضطراب في صفوف الفرس، ومن بين نتائج المعركة عودة القبائل العربيَّة الضاربة في الشمال إلى طاعة المسلمين، كما اعتنق بعضها الإسلام.
تابع المسلمون تقدمهم بعد المعركة باتجاه المدائن عاصمة يزدجرد، ولما رأى الملك الفارسي أن المسلمين أصبحوا على أبواب عاصمته عرض عليهم الصلح مقترحًا أن يجلو عن المدائن الدنيا على ضفة دجلة الغربيَّة تاركًا المنطقة للمسلمين، شرط أن يعترفوا بالنهر حدًّا فاصلاً بينهم وبينه، فرفض سعد هذا العرض، وواصل حصاره لبَهُرَسِير حتى دخلها، واندفع المسلمون، فعبروا نهر دجلة إلى المدائن ودخلوها.
لم ييئس يزدجرد بعد سقوط عاصمته، وأرسل جيشًا إلى جلولاء التي تقع على مفترق الطرق إلى أَذْرَبِيجَان والباب والجبال وفارس، فأرسل سعدَ هاشم بن عتبة على رأس قوَّة عسكريَّة، اصطدمت بالجيش الفارسي وأَجْلَتْهُ عن المدينة، ولما بلغت يزدجردَ أنباءُ هذه الهزيمة، وكان في حلوان، انسحب منها إلى الرِّيِّ في شمال فارس، وأتمَّ سعد فتح باقي مدن العراق مثل: تَكْرِيت، والمَوْصِل، وماسَبَذَان، وقَرْقيسِيَاء، وهِيت، ودَسْت مِيسَان.
ثم رأى عمر بن الخطاب أن يقف بالفتوح عند حدود العراق، غير أن الأحداث عدَّلت من سياسته، فالفرس لم يعترفوا بالهزيمة، فجمعوا قوَّاتهم في الأهواز في الجنوب الشرقي من العراق، واتَّخذوها قاعدة انطلاق لشنِّ هجمات خاطفة على المسلمين، فاضطر المسلمون إلى فتح الأهواز ورامَهُرْمُز والسوس وتُسْتَر؛ لوقف الهجمات الفارسيَّة على صفوفهم وقواعدهم.
جهز يزدجرد جيشًا جديدًا أمَّر عليه الفيرزان، واصطدم بالمسلمين بقيادة النعمان بن مقرِّن المُزَنِيِّ في نَهَاوَنْد من بلاد الجبل جنوبي هَمَذَان، وأسفر الصدام عن انتصار المسلمين رغم استشهاد قائدهم، كما قُتِلَ القائد الفارسي، وتراجعت فلول المنهزمين إلى حصن نهاوَنْد، وامتنعوا فيه، فحاصرهم المسلمون بقيادة حُذيفة بن اليمان الذي خلف النعمان، حتى استسلموا، وصالح أهل الحصن المسلمين على الأمان في (شهر محرم عام 19هـ).
وتُعَدُّ معركة نهاوَنْد من المعارك الكبرى في تاريخ الفتوح الإسلاميَّة في فارس، وسمَّاها المسلمون "فتح الفتوح" لأنها فتحت الطريق أمامهم للقضاء على الدولة الفارسيَّة نهائيًّا.
أما الجبهة الشاميَّة فقد شَهِدت تطوُّرًا كبيرًا في أحداثها وخاصَّة بعد انهزام الروم في معركة اليرموك، فقد غادر هرقل بيت المقدس لمَّا عَلِم بانتصار المسلمين في اليرموك، واتَّجه إلى حمص ليجعلها مقرًّا لأعماله الحربيَّة.
بينما اتجه المنهزمون إلى فِحْل، فوجَّه إليها أبو عبيدة بن الجراح قوَّة صغيرة، واتجه هو بجيشه إلى دمشق بناء على مشورة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي قال فيها لأبي عبيدة: ابدءوا بدمشق فانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهلَ فِحْل بِخَيلٍ تكون بإزائهم وأهلَ فلسطين وأهلَ حمص.
ولما وصلت جيوش المسلمين إلى دمشق نزل عمرو بن العاص بباب الفراديس، ونزل شُرَحْبِيل بن حَسَنَة بباب تُومَاء، وقيس بن هبيرة بباب الفرج، وأبو عبيدة بباب الجبابية، وبقي خالد بن الوليد بالباب الشرقي، وشدَّد المسلمون الحصار على أهل دمشق سبعين يومًا، ولم تُجْدِ منعةُ حصونهم وما عليها من مجانيق وغيرها من آلات الدفاع نفعًا، فمنع المسلمون المدد من أن يصل إليهم، ونفدت المؤن من عندهم، ونفد صبرهم، وانكسرت حميتهم، وتمَّ للمسلمين فتح هذه المدينة.
وبعد فتح دمشق (15 من رجب 14هـ) سار الجيش إلى فِحْل، فأعاد أبو عبيدة تنظيم الجيش مرَّة أخرى، وكان الروم قد جعلوا بينهم وبين المسلمين خطًّا مانعًا من الوَحْل، حتى يُعيق المسلمين عن التقدُّم، ولكن انتهت المعركة بهزيمة ساحقة جعلت من هذا الوَحْل وبالاً عليهم، فبعد مقتل أميرهم لم يستطيعوا الفِرَار من أرض المعركة المليئة بهذا الوَحْل، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وانصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص، فاستوليا عليها ثم على حَمَاة، وقِنِّسْرِينَ واللاذقيَّة وحَلَب.
أما شُرَحْبِيل وعمرو بن العاص فقد قصدوا بَيْسَان، فحاصروا أهلها أيَّامًا وأرغموهم على طلب الصلح والأمان، ولمَّا عَلِمَ أهل طبرية بما حلَّ بأهل فِحْل وبَيْسَان طالبوا بعقد صلح مع المسلمين، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بالفتح.
أمَّا فلسطين في ذلك الوقت فكان عليها والٍ روماني يُدعى (أرطبون)، وكان من أدهى القوَّاد الرومان، وقد أقام جندًا كثيرًا ببيت المقدس والرملة باعتبارهما أهمّ المدن الفلسطينيَّة، على حين عسكر بجنده الكثيف بأَجْنَادَيْنِ.
ولما رأى عمرو أن القوَّة التي مع الروم أقوى مما كان يظنُّ، كتب إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمَّا تنفرج. وكتب إلى القوَّاد أن يسيروا إلى قيسارية والرملة وبيت المقدس ليشغلوا الروم عن عمرو.
سار عمرو إلى أَجْنَادَيْنِ (15هـ)، واقتتل المسلمون والروم قتالاً شديدًا -لا يقلُّ عن قتال اليرموك- فانهزم أرطبون بعد منازلته لعمرو بن العاص، فارتدَّ بالفارِّين إلى بيت المقدس.
وكان من أثر انتصار عمرو على أرطبون أن أَذْعَن للمسلمين كل مَن كان بـيافا، ونابلس، وعسقلان، وغزة، والرملة، وعكا، وبيروت، ولُدّ، والجبلة، وفُتِحَت أبوابها لهم من غير قتال إلا بيت المقدس.
ثم قصد عمرو بن العاص بعد ذلك بيت المقدس، وضرب حولها حصارًا شديدًا، وأخذ يُراسل الأرطبون مراسلة ودِّيَّة، ويطلب إليه تسليم المدينة، والأرطبون يأبى ذلك، واستمرَّ هذا الحصار أربعة أشهر لم ينقطع فيها القتال، والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر، إلى أن يئِس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرَّر بِطْرِيقهم (صفرونيوس) القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إلى عمرو بن العاص -قائد جيش المسلمين- رسالة يُغريه فيها بفكِّ الحصار؛ نظرًا لاستحالة احتلال المدينة.
[/b]