إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: عن أبي مدينة الدارمي- رضي الله عنه -، قال: « كان الرجلان من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا، ثم أرادا أن يفترقا، قرأ أحدهما: ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر ﴾ حتى يختمها، ثم يسلم كل واحد منهما على صاحبه »( ) .
قال الشيخ الألباني – رحمه الله - : « وفي هذا الحديث فائدتان مما جرى عليه عمل سلفنا – رضي الله عنهم جميعا-:
إحداهما: التسليم عند الافتراق، وقد جاء النص بذلك صريحا من قوله – صلى الله عليه وسلم -: « إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، وإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة » . وهو حديث صحيح ... وفي معناه الأحاديث الآمرة بإفشاء السلام ...
والأخرى: نستفيدها من التزام الصحابة لها، وهي قراءة سورة العصر؛ لأننا نعتقد أنهم أبعد الناس عن أن يحدثوا في الدين عبادة يتقربون بها إلى الله، إلا أن يكون ذلك بتوقيف من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعلا أو تقريرا ... »( ).
وعن أبي نضرة – رحمه الله -، قال : « كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا تذاكروا العلم، وقرءوا سورة »( ) .
قلت: هي سورة العصر كما مر، قال الله تعالى: ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [العصر: ١ – ٣].
عن محمد بن كعب القرظي – رحمه الله – قال في قوله تعالى: « ﴿ والعصر ﴾ قال: « قسم أقسم به ربنا تبارك وتعالى، ﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ قال: الناس كلهم، ثم استثنى فقال: ﴿ إلا الذين آمنوا﴾، ثم لم يدعهم وذلك حتى قال: ﴿ وعملوا الصالحات ﴾، ثم لم يدعهم وذلك حتى قال: ﴿وتواصوا بالحق ﴾، ثم لم يدعهم وذلك حتى قال: ﴿ وتواصوا بالصبر ﴾ شروطا يشترط عليهم »( ).
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله-: « لو ما أنزل الله حجة على عباده إلا هذه السورة لكفتهم »( ) وقال: « الناس في غفلة عن هذه السورة ﴿ والعصر ﴾ »( ).
ومما تضمنته هذه السورة:
1/ الإشارة إلى قيمة الزمن وضرورة حفظ الأوقات :
عن ابن عباس– رضي الله عنه- في قوله: ﴿ والعصر ﴾ قال: « العصر: ساعة من ساعات النهار»( ). وقال ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : « والعصر المقسم به قيل: هو أول الوقت الذي يلي المغرب من النهار، وقيل: هو آخر ساعة من ساعاته، وقيل: المراد صلاة العصر، وأكثر المفسرين على أنه الدهر، وهذا هو الراجح »( ).
وقال الطبري – رحمه الله - : « والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر، والعصر اسم للدهر، وهو العشيّ والليل والنهار، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكلّ ما لزِمه هذا الاسم، فداخل فيما أقسم به جلّ ثناؤه »( ).
فالله – جل وعز - أقسم بالعصر، وهو الدهر( )، والدهر الزمان( )، والزمن والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره( )، والوقت مقدارٌ من الزمانِ ( )، وهو محل أعمال الإنسان، وأجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء، وإنما أقسم الله به لبيان أهميته وعظمه، وأنه من جملة أصول النعم التي ينبغي أن تغتنم، وقدمه لأن مراعاة الأوقات مقدمة على مراعاة جميع الواجبات.
وعمر الإنسان هو وقته في الحقيقة، وهو مسئول عنه؛ عن ابن مسعود – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: « لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم»( ).
فالمسلم مطالب بمراعاة الوقت يوميا لأداء الصلوات في أوقاتها، وبمراعاتها أسبوعيا لأداء صلاة الجمعة، وبمراعاتها شهريا في العدة والطلاق وغيرهما، وبمراعاتها سنويا لأداء الزكاة وصوم شهر رمضان، وبمراعاتها على مدى العمر لأداء مناسك الحج وعبادة الله .
وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتقارؤون سورة العصر عند كل لقاء؛ بيانا لقيمة الزمن، وحفظا للأوقات، وحثا على عمارتها بالصالحات، وتربية لملكة مراعاتها؛ لأن الوقت أجل غنيمة تنتهز فيها الفرص، وأعظم تحصيل عند العقلاء والعلماء بالأخص، وهو رأس مال الإنسان، وبقدر العناية به أو تضييعه يحصل الربح أو الخسران، وهو أنفس ما عني المرء بحفظه، وأسهل ما يضيعه لجهالته وضعفه، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن لم تحافظ عليه ذهب ولم يبق معك، ويا ليته يذهب ولا يترك أثرا، بل ما فات منه لا يستدرك ولا شيء أعز منه قدرا، ففيه الأنفاس تعد وتحسب، وبمرور جزء منه تدنو المنايا من النفوس وتقرب، وقد يفرح الغمر بذهابه، ولا يدري أن في إذهابه ذهابا به، فضياع الوقت وفوته هو هلاك الإنسان وموته.
فعلى العاقل أن يكون ابن وقته، وأن يشغل نفسه في كل وقت بما هو أولى لها، وأنفع في معادها ومعاشها، وأن يقوم بالعمل الحاضر؛ ليكون عونا له على العمل الآخر، ولا يؤخر عمل الساعة الأولى إلى الساعة الثانية، ولا عمل اليوم إلى الغد، ولينظم أعماله، ويترك الفضول في كل شيء، ويقلل من الأكل، والنوم، ومخالطة الناس، وليغتنم حياته قبل موته، وصحته قبل سقمه، وفراغه قبل شغله، وشبابه قبل هرمه، وغناه قبل فقره. وليحرص على أن لا يغبن خاصة حال صحته وفراغه؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وكل الناس يغدو فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها، قال الله تعالى: ﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ [الفرقان: ٦٢].
عن ابن عباس– رضي الله عنه - قوله: ﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ﴾ يقول: « من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل »( ).
2/ الدعوة إلى عمارة الأوقات بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر:
قال الطبري– رحمه الله-: « وقوله ﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان »( ) .
وعن مجاهد- رحمه الله -: « ﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ إلا من آمن »( ).
وقال الطبري – رحمه الله - أيضا: «﴿ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات﴾ يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد. وقوله: ﴿ وتواصوا بالحق﴾ يقول: وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه »( ).
وعن قتادة –رحمه الله -: « ﴿ وتواصوا بالحق﴾ والحق: كتاب الله»( ).
وقال الطبري– رحمه الله -: « وقوله: ﴿ وتواصوا بالصبر﴾ يقول: وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله »( ).
وعن قتادة –رحمه الله-:﴿ وتواصوا بالصبر﴾ قال: « الصبر: طاعة الله »( ).
وقال ابن الجوزي-رحمه الله-: « قال أهل المعاني: الخسر: هلاك رأس المال أو نقصه. فالإنسان إذا لم يستعمل نفسه فيما يوجب له الربح الدائم، فهو في خسران، لأنه عمل في إهلاك نفسه، وهما أكبر رأس ماله، «﴿ إلا الذين ءامنوا ﴾ أي: صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بالطاعة. ﴿ وتواصوا بالحق﴾ أي : بالتوحيد ، والقرآن ، واتباع الرسول. ﴿ وتواصوا بالصبر﴾ على طاعة الله ، والقيام بشريعته »( ).
وعن ابن عباس – رضي الله- قال : قال النبي- صلى الله عليه وسلم- : « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ »( ).
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: « وقال الطيبي: ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم - للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس وعدو الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ الآيات. وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح. وقوله في الحديث: "مغبون فيهما كثير من الناس" كقوله تعالى: ﴿ قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: ١٣]، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية »( ).
قال الله- جل وعز-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ [فاطر: ٢٩] ، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: ١٠ - ١١ ].
وعن ابن عباس – أيضا – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: « اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك »( ).
نسأل الله التوفيق، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، سبحانه وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، نستغفره، ونتوب إليه.